عظة الأحد 16 كانون الثاني 2011
ذكرى الأربعين للمرحوم جهاد الحدّاد
الخوري أنطوان الدويهيّ
"وكانت الساعة نحو الرابعة بعد الظهر"
أخي الحبيب جهاد
أربعون يومًا مرَّت على غيابك ولم تغب عن بالي لحظة واحدة، أتُراك غبتَ عن بالِ أمِّك الثكلى وأختك الحنون وأخويك فادي ونبيل
أربعون يومًا مرَّت وأنا أفكِّر ماذا يمكنني أن أقول في هذه الذكرى الأليمة لنا والسعيدة لك
أربعون يومًا مرَّت وما زلتُ أذكر زملاءك في مستشفى سيِّدة المعونات، يومَ وفاتِك، وقد تجمهروا ليُلقوا عليك نِظرتهم الأخيرة، غيرَ مصدِّقين أنَّك تغيب عنهم إلى الأبد
أربعون يومًا مرَّت وأنا أحاول أن أستعيد ذكرياتٍ أمضيناها معًا منذ صفِّ الروضة حتّى انتقالك إلى بلدة البوار، ومرضك الأخير وغيابك المؤلم
أعود بالذاكرة إلى أيَّام الطفولة وما زلت أذكر نيشان التفوُّق يرتاح على صدرك طوال السنة الدراسيَّة في الصفوف الابتدائيَّة والتكميليَّة، بينما يظهر ويختفي على صدري بعد صدور دفتر العلامات في نهاية كلِّ شهر.
كم كنّا نقضي أوقاتَ الفرصة معًا في حوش المدرسة ونلتهي مع رفاقنا بلعبة "البوليس والحراميَّة"؛ وكم كان حضور مس أدال يرهبنا ويرجفنا قصبًا وهي تحمل بيدها مِسطرتَها الغليظة تضرب بها من يخالف أوامرها. ولا أذكر أنَّ أحدًا منّا نحن الاثنين نال ضربة واحدة من تلك المسطرة
كما أذكر الأخت ماري بونوا الراهبة الفرنسيَّة الطيِّبة التي تمنح المجتهدين والمنضبطين علامات، وعندما يصير عددها فوق العشرة نحصل على هديَّة من صنع يديها، صورةٍ معلَّقة على خشبة أو كرتونة سميكة. وكم كنّا نتنافس في من يحصل على أكبر عدد ممكن من العلامات.
سنوات الدراسة أمضيناها معًا في مدرسة مار فرنسيس – غزير وفي ثانويَّة غزير الرسميَّة. لم نفترق سوى سنة واحدة، بقيتَ فيها في مدرسة مار فرنسيس بينما توجَّهت أنا إلى الثانويَّة. بعدها مضى كلٌّ إلى دعوته
وتمضي الأيّام وأُصبح كاهنًا وخادم رعيَّة البوار، وتختار أنت السكنَ فيها قرب كنيسة مار يوحنّا المعمدان. وتعود الصداقة لتتأجَّج من جديد وتعود اللقاءات الحلوة معًا. وظلََّ الاحترام مرفرفًا بيننا فما كنت تناديني إلاّ: أبونا أنطوان، برغم الصداقة التي تربط أحدَنا بالآخر. وانتسبتَ إلى معهد اللاهوت في العذرا طلبًا في التعمُّق بحياتك المسيحيَّة. كما تعلَّمتَ السريانيَّة وانضممت إلى جوقة لتُمجِّد الله بصوتك الجميل
كم كان فرحك كبيرًا بانتقالي إلى خدمة رعيَّة غباله. وكم كان حلمنا كبيرًا أن يبارك زواجَك رفيقُ الطفولة، فإذا به يزفُّك عريسًا سماويًّا لتنتقل وتعيش في الأخدار العلويَّة صحبة الأبرار والصدِّيقين
أخي الحبيب جهاد
كتبَ يوحنّا إنجيله حوالي السنة مئة وتعرَّف إلى يسوع حوالي سنة 27 ميلاديًّا. بعد سبعين سنة ظلَّ يوحنّا متذكِّرًا ساعة اللقاء بيسوع الحبيب، "كانت الساعة نحو الرابعة بعد الظهر"، ومنذ تلك اللحظة لم يفارقه أبدًا حتّى بعد صعود الربِّ إلى السماء. ظلَّ أمينًا له طوال حياته، بشَّر به في أورشليم وانتقل إلى بلاد اليونان وتركيّا وأقام في أفسس ودوَّن أعظم شهادة حبٍّ، إنجيلَ يوحنّا، ورسائل يوحنّا الثلاث ورؤيا يوحنّا
وأنتَ أيضًا وضعتَ يدك على المحراث ولم تلتفت إلى الوراء، التقيت بيسوع ولم تبرحْه طوال حياتك. اتَّخذت الطبَّ مهنة ورسالة فكنتَ الخادم الأمين الذي راح يعطي "الدواء" في حينه. التقيتُ بك مرَّة في السفارة الجزائريَّة تأخذ تأشيرة للذهاب إلى الجزائر مع الطبيب لمعالجة المرضى هناك. قلت لي يومها إنَّك تمضي كلَّ أسبوعين مع طبيب للقلب لأنَّه الطبيب الوحيد المخوَّل لإجراء عمليّات القلب في الجزائر
خدمتَ المرضى وأحببتهم حتّى تشبَّهت بهم وأضحيتَ واحدًا منهم، كما أحبَّنا إلهنا وأضحى واحدًا منّا وبذل ذاته عنّا جميعًا. اختبرتَ الألم والمرض وأمَلُك بالله كبير أنَّك تشفى يومًا مردِّدًا قولاً أضحى مأثورًا لديك: "متل ما ألله بيريد"، "لتكن مشيئتك يا ربّ". وما كنتَ عارفًا أنَّ من أراد أن يسير خلف المسيح، عليه ألاَّ يحمل صليبه فقط بل أن يموت عليه على مثال معلِّمه الإلهيّ. حملتَ صليبَك ولم تتخاذلْ ورحتَ تسير به على درب الجلجلة إلى أن سُمِّرت عليه وفاضت روحُك الطاهرة من عليائه فشاركت المسيح في آلامه لتشاركه في مجده أيضًا
هنيئًا لك، أخي الحبيب جهاد، لأنَّك عرفت أن تسير خلف الربّ وتبلغ مبلغَه. هنيئًا لك، لأنَّك دخلت عالم السماء من بابه الضيِّق. هنيئًا لك لأنَّك عرفت كيف تنتصرُ على المرض باستسلامك لإرادة الله، فأخزيتَ المرضَ والموتَ بقيامتك إلى الحياة الحقَّة
ونحن، الأهلَ والأقرباء والأصحاب والزملاء، لا نبكينَّ على جهاد كالذين لا رجاء لهم، بل لنجدِّدْ ثقتَنا بالله وإيماننا به ورجاءَنا الوطيد أنَّ حبيبنا جهاد يعيش في الملكوت السماويّ حيث لا حزن ولا ألم ولا بكاء بل فرح وسلام وراحة بالربِّ يسوع المسيح. آمين
ذكرى الأربعين للمرحوم جهاد الحدّاد
الخوري أنطوان الدويهيّ
"وكانت الساعة نحو الرابعة بعد الظهر"
أخي الحبيب جهاد
أربعون يومًا مرَّت على غيابك ولم تغب عن بالي لحظة واحدة، أتُراك غبتَ عن بالِ أمِّك الثكلى وأختك الحنون وأخويك فادي ونبيل
أربعون يومًا مرَّت وأنا أفكِّر ماذا يمكنني أن أقول في هذه الذكرى الأليمة لنا والسعيدة لك
أربعون يومًا مرَّت وما زلتُ أذكر زملاءك في مستشفى سيِّدة المعونات، يومَ وفاتِك، وقد تجمهروا ليُلقوا عليك نِظرتهم الأخيرة، غيرَ مصدِّقين أنَّك تغيب عنهم إلى الأبد
أربعون يومًا مرَّت وأنا أحاول أن أستعيد ذكرياتٍ أمضيناها معًا منذ صفِّ الروضة حتّى انتقالك إلى بلدة البوار، ومرضك الأخير وغيابك المؤلم
أعود بالذاكرة إلى أيَّام الطفولة وما زلت أذكر نيشان التفوُّق يرتاح على صدرك طوال السنة الدراسيَّة في الصفوف الابتدائيَّة والتكميليَّة، بينما يظهر ويختفي على صدري بعد صدور دفتر العلامات في نهاية كلِّ شهر.
كم كنّا نقضي أوقاتَ الفرصة معًا في حوش المدرسة ونلتهي مع رفاقنا بلعبة "البوليس والحراميَّة"؛ وكم كان حضور مس أدال يرهبنا ويرجفنا قصبًا وهي تحمل بيدها مِسطرتَها الغليظة تضرب بها من يخالف أوامرها. ولا أذكر أنَّ أحدًا منّا نحن الاثنين نال ضربة واحدة من تلك المسطرة
كما أذكر الأخت ماري بونوا الراهبة الفرنسيَّة الطيِّبة التي تمنح المجتهدين والمنضبطين علامات، وعندما يصير عددها فوق العشرة نحصل على هديَّة من صنع يديها، صورةٍ معلَّقة على خشبة أو كرتونة سميكة. وكم كنّا نتنافس في من يحصل على أكبر عدد ممكن من العلامات.
سنوات الدراسة أمضيناها معًا في مدرسة مار فرنسيس – غزير وفي ثانويَّة غزير الرسميَّة. لم نفترق سوى سنة واحدة، بقيتَ فيها في مدرسة مار فرنسيس بينما توجَّهت أنا إلى الثانويَّة. بعدها مضى كلٌّ إلى دعوته
وتمضي الأيّام وأُصبح كاهنًا وخادم رعيَّة البوار، وتختار أنت السكنَ فيها قرب كنيسة مار يوحنّا المعمدان. وتعود الصداقة لتتأجَّج من جديد وتعود اللقاءات الحلوة معًا. وظلََّ الاحترام مرفرفًا بيننا فما كنت تناديني إلاّ: أبونا أنطوان، برغم الصداقة التي تربط أحدَنا بالآخر. وانتسبتَ إلى معهد اللاهوت في العذرا طلبًا في التعمُّق بحياتك المسيحيَّة. كما تعلَّمتَ السريانيَّة وانضممت إلى جوقة لتُمجِّد الله بصوتك الجميل
كم كان فرحك كبيرًا بانتقالي إلى خدمة رعيَّة غباله. وكم كان حلمنا كبيرًا أن يبارك زواجَك رفيقُ الطفولة، فإذا به يزفُّك عريسًا سماويًّا لتنتقل وتعيش في الأخدار العلويَّة صحبة الأبرار والصدِّيقين
أخي الحبيب جهاد
كتبَ يوحنّا إنجيله حوالي السنة مئة وتعرَّف إلى يسوع حوالي سنة 27 ميلاديًّا. بعد سبعين سنة ظلَّ يوحنّا متذكِّرًا ساعة اللقاء بيسوع الحبيب، "كانت الساعة نحو الرابعة بعد الظهر"، ومنذ تلك اللحظة لم يفارقه أبدًا حتّى بعد صعود الربِّ إلى السماء. ظلَّ أمينًا له طوال حياته، بشَّر به في أورشليم وانتقل إلى بلاد اليونان وتركيّا وأقام في أفسس ودوَّن أعظم شهادة حبٍّ، إنجيلَ يوحنّا، ورسائل يوحنّا الثلاث ورؤيا يوحنّا
وأنتَ أيضًا وضعتَ يدك على المحراث ولم تلتفت إلى الوراء، التقيت بيسوع ولم تبرحْه طوال حياتك. اتَّخذت الطبَّ مهنة ورسالة فكنتَ الخادم الأمين الذي راح يعطي "الدواء" في حينه. التقيتُ بك مرَّة في السفارة الجزائريَّة تأخذ تأشيرة للذهاب إلى الجزائر مع الطبيب لمعالجة المرضى هناك. قلت لي يومها إنَّك تمضي كلَّ أسبوعين مع طبيب للقلب لأنَّه الطبيب الوحيد المخوَّل لإجراء عمليّات القلب في الجزائر
خدمتَ المرضى وأحببتهم حتّى تشبَّهت بهم وأضحيتَ واحدًا منهم، كما أحبَّنا إلهنا وأضحى واحدًا منّا وبذل ذاته عنّا جميعًا. اختبرتَ الألم والمرض وأمَلُك بالله كبير أنَّك تشفى يومًا مردِّدًا قولاً أضحى مأثورًا لديك: "متل ما ألله بيريد"، "لتكن مشيئتك يا ربّ". وما كنتَ عارفًا أنَّ من أراد أن يسير خلف المسيح، عليه ألاَّ يحمل صليبه فقط بل أن يموت عليه على مثال معلِّمه الإلهيّ. حملتَ صليبَك ولم تتخاذلْ ورحتَ تسير به على درب الجلجلة إلى أن سُمِّرت عليه وفاضت روحُك الطاهرة من عليائه فشاركت المسيح في آلامه لتشاركه في مجده أيضًا
هنيئًا لك، أخي الحبيب جهاد، لأنَّك عرفت أن تسير خلف الربّ وتبلغ مبلغَه. هنيئًا لك، لأنَّك دخلت عالم السماء من بابه الضيِّق. هنيئًا لك لأنَّك عرفت كيف تنتصرُ على المرض باستسلامك لإرادة الله، فأخزيتَ المرضَ والموتَ بقيامتك إلى الحياة الحقَّة
ونحن، الأهلَ والأقرباء والأصحاب والزملاء، لا نبكينَّ على جهاد كالذين لا رجاء لهم، بل لنجدِّدْ ثقتَنا بالله وإيماننا به ورجاءَنا الوطيد أنَّ حبيبنا جهاد يعيش في الملكوت السماويّ حيث لا حزن ولا ألم ولا بكاء بل فرح وسلام وراحة بالربِّ يسوع المسيح. آمين